داء السكري.. القاتل الصامت حلو المذاق
بروفيسور بشارة بشارات: "يمكن التخلي عن كافة علاجات السكري بنظام غذائي سليم"- " استبدال الخبز الأبيض بخبز القمح يمنع بـ36% الاصابة بالسكري" -"هنالك علاقة مباشرة بين السمنة والسكري لذلك أطلق على المرض اسم "السمنري!" -"نحن محسودون على كميات الخضار المتوفرة في بلادنا.. لماذا لا نستفيد منها؟!"
يطلق عليه الأطباء والباحثون "وباء العصر" نظرا لانتشاره وتوسعه في العالم بما يفوق التوقعات. انه داء السكري الذي يعرّف على انه متلازمة تتصف باضطراب الاستقلاب وارتفاع شاذ في تركيز السكر في الدم، والناجم عن عوز او حاجة لهرمون الأنسولين، أو انخفاض حساسية الأنسجة للأنسولين، أو كلا الأمرين معا. يؤدي السكري إلى مضاعفات خطيرة أو حتى الى الوفاة المبكرة، إلا أن مريض السكري يمكنه أن يتخذ خطوات معينة للسيطرة على المرض وخفض خطر حدوث المضاعفات. تتلخص تلك الخطوات في خفض الوزن، وكثرة الحركة واتباع نظام غذائي صحي وسليم.
حول هذا الوباء وكيفية التعايش معه كان لموقع "طب تايم" اللقاء التالي مع د. بشارة بشارات، الذي حصل هذا الاسبوع على شهادة الاستاذية (بروفيسور) في طب الأسرة والمجتمع.
- نبدأ بسؤال المليون ريال والذي يربك الكثير من الناس، وهو هل هنالك علاقة بين الافراط في تناول المحليات وبين مرض السكري؟
- د. بشارات: واضح ان السكري هو وباء العصر، خاصة في مجتمعاتنا العربية والشرقية، فلو نظرنا الى خريطة انتشار السكري في العالم نجد ان من بين أكثر عشر دول يعاني فيها السكان من ارتفاع السكري 7 دول عربية. في مقدمتها السعودية ودول والخليج ومصر والأردن، والأمر ينسحب كذلك على الداخل الفلسطيني ونسب السكري في مجتمعنا مرتفعة جدا.
ويضيف د. بشارات قائلا: قبل ثلاثين عاما عندما كان يوجه إلي هذا السؤال حول علاقة تناول السكريات والحلويات، كان الكثير من الناس ومن الأطباء ايضا يعارضون ردّي بالإيجاب، أما اليوم وبعد تفاقم المرض بهذه الحدة، أصبح جميع الأطباء والباحثين في مجال السكري يقرّون بأن النظام الغذائي غير الصحي وغير السليم هو المسبب الأساسي للسكري.
وتجدر الاشارة هنا الى ان السكر موجود ليس فقط في ملعقة السكر، وانما هنالك الكثير من الأطعمة التي تحتوي على كميات من السكر نحن لا نعرفها كالخبز الأبيض مثلا.
ويتابع د. بشارات "كنت في زيارة لبعض المخابز في العاصمة الأردنية عمان، وشاهدت ان في كل كتلة عجين لإنتاج الخبز الأبيض يضعون ثلاثة أكياس من السكر (3 كيلو سكر في كل عجنة). والسكر بدأ استعماله في الولايات المتحدة وزاد في الكثير من الدول، وخصوصا في بلادنا، لأنه يحافظ على الغذاء المعلب والمغلف ويعتبر نوعا من المواد الحافظة. لذلك نجده يستعمل مثلا في عصير البندورة لكي يحافظ عليها. فعلميا استهلاك السكر مرتفع جدا. وعلى سبيل المثال فإن منظمة الصحة العالمية تنصح باستهلاك ما لا يزيد عن 25 غراما من السكر في اليوم للنساء، و35 غراما للرجال. بينما تخيل ان معدل استهلاك السكر للفرد في مجتمعنا يعادل نحو عشرة أضعاف هذه الكمية (حوالي 200 غرام، سواء في الخبز او في الحلويات او في القهوة والشاي وغيرها.
ومن جهة أخرى فإن النشويات الموجودة في الخبز الأبيض وفي البطاطا التي نستهلكها بشكل كبير في مجتمعنا، تؤدي الى زيادة الوزن، وبالتالي فإن هنالك علاقة مباشرة بين السمنة المفرطة ومرض السكري. واليوم بدأ الباحثون يتحدثون عن مرض مشترك يجمع بين السمنة والسكري، ونحن كجمعية لتطوير صحة المجتمع العربي قمنا بتسجيل اسم هذا المرض في المجمع اللغوي العربي في القاهرة بأنه مرض "السّمنري"، أي انه يجمع بين كلمتي السمنة والسكري في كلمة واحدة، لذلك فإنه من يعاني من السمنة الزائدة غالبا ما يعاني من السكري، والعكس صحيح فإن نسبة عالية من الذين اصيبوا بالسكري هم بدناء. لذلك واجب علينا ان نمنع البدانة والسمنة اولا لكي نمنع بالتالي ظهور السكري.
- حدثنا عن ابحاثك التي أجريتها في المجتمع العربي والتي تشير الى اسباب تفاقم هذا المرض.
- د. بشارات: اول بحث اجريته في الناصرة عن مرض السكري كان في العام 1983 وكانت نسبة مرضى السكري لا تتجاوز 2.5% من السكان، أما اليوم فتبلغ نسبة مرضى السكري حوالي 20% من سكان المدينة البالغين. ونحن نقسم مرض السكري الى قسمين سكر الأطفال (الذين يولدون مع مرض السكري بسبب عجز البنكرياس)، وسكري البالغين الذي يتطور نتيجة نظام غذائي سيء وضغوط على البنكرياس واسباب أخرى. لكن الملاحظ ان سكري البالغين في الماضي كان يبدأ من سن 30 عاما فما فوق، بينما اليوم اصبح سكر البالغين أصبح يصيب الشباب ايضا، لان نمط الحياة السيء اصبح يبدأ مبكرا، بالإضافة الى الخمول وقلة الحركة، وأذكر قبل مدة ليست ببعيدة اننا قمنا بالكشف عن طفل لا يتجاوز 12 عاما، مريض بسكري البالغين! واتضح لنا ان جدته توفيت بمرض السكري وأمه مريضة بالسكري، لكن هذا ليس وراثيا، فالأطباء يكثرون من القول بأن هذا المرض وراثيا لكي يتهربوا من المسؤولية، فالوراثة لا تلعب الدور الاساسي في تطور السكري. ولو كان الأمر كذلك لبقيت النسبة كما كانت عليه في العام 1983 لو كان وبقي المرض متوارثا بين العائلات المريضة، لكن تزايده بهذا الشكل يعني انه تطور لدى الكثير ولم ينتقل وراثيا!!
- لكن من المتعارف عليه ان عامل الوراثة يلعب دورا اساسيا في تناسل مرض السكري.. اليس كذلك؟
- د. بشارات: العامل الوراثي موجود لكنه ليس المسبب الكامل والرئيسي للمرض، لكن في عائلة هذا الطفل الذي طوّر مرض السكري في سن 12 عاما، الرابط المشترك بين افراد هذه الأسرة هو نمط الحياة غير الصحي وغير السليم، وتكون ثلاجة المنزل مليئة بالمشروبات الغازية ومشروب الطاقة والحلويات على انواعها. وانا كطبيب اسرة أزور البيوت وأزور المرضى في كثير من الأحيان واتعمد فتح الثلاجة وأرى ما يوجد في داخلها، وهذا ينذر بأن الشقيق الثاني والثالث لهذه العائلة معرض ايضا للإصابة بالسكري مستقبلا ما لم يحدثوا تغييرا في نمط حياتهم.
لذلك، يقول د. بشارات، نلاحظ ان جيل بداية سكري البالغ بدأ ينخفض من سن الأربعين والخمسين الى العشرين ودون العشرين احيانا ويزداد حدة وتفاقما مع التقدم في العمر، مع ضعف وترهل البنكرياس المسؤول عن إفراز الانسولين، وحتى سن الستين يكون المرض قد نال من المريض حدا يمكن ان يضطره الى بتر اعضاء من جسمه.
ويتحدث د. بشارات عن أحدث مسح سكاني اجري في مدينة ام الفحم، ظهر فيه ان 60% من المواطنين فوق سن الستين يعانون من ارتفاع في السكري. لذلك نرى ان الأرقام هائلة وتكاد لا تخلو عائلة من مريض بالسكري.
- هل نرى معادلة مشابهة او مماثلة لمجتمعنا العربي في المجتمعات الأخرى في العالم؟
- د. بشارات: مرض السكري في ارتفاع مستمر في كل العالم، لكن قليلا ما نشهد مثل هذا التدهور الحاصل في مجتمعنا العربي وقد لا نجد مثيلا له. ففي بريطانيا ومثلها الكثير من الدول الاوروبية لا تتعدى نسبة مرضى السكري بين البالغين 6% أي ان النسبة لدينا تعادل 3 أضعاف النسبة في بريطانيا مثلا. أما في امريكا الجنوبية فهناك ايضا نشهد ارتفاعا حادا في نسب مرضى السكري، وبعض دول امريكا الجنوبية موجودة بين على قائمة العشر الأوائل في انتشار السكري.
- هل يعتبر مرض السكري مرضا خطيرا؟!
- د. بشارات: باعتقادي هو مرض خطير جدا، والمسبب الاول للوفيات في المجتمع العربي هو السكري، وانا اسمي مرض السكري "القاتل الصامت حلو المذاق" لأننا لا نشعر به، وهنا تكمن الصعوبة في ان يتعامل المريض مع مرض هو لا يشعر به، فعندما تكون نسبة السكر عالية في الدم لا يشعر المريض لأن مضاعفات ذلك تجيء في مراحل متقدمة.
ان ما يحدث في الجسم هو ان الدورة الدموية التي تحمل الاكسجين الى الدماغ والكلى وسائر اعضاء الجسم تحتوي على نسبة قليلة من السكر، لكن لدى مريض السكري تكون نسبة السكر عالية ما يعني ان الدم لن يجري في الأوعية الدموية الدقيقة بسهولة كما الماء، وانما يكون لزجا كالقطر الذي نضيفه الى الحلويات. وعندما يكون لزجا فان السكر يعلق او يلتصق على جوانب الاوعية الدموية ومع الوقت يسبب انسداد فيها، وحيث يحدث الانسداد يصاب العضو الذي لم يعد يصله الاكسجين والدم. وكل الامراض الموجودة في كتب الطب يمكن ان يسببها السكري.
- كيف يمكن للمريض ان يتعايش مع السكري ويحافظ على توازنه؟
د. بشارات: في البداية يمكن ان نتعايش معه بأن نمنع حدوثه. واليوم نستطيع ان نشخص مرض السكري قبل حدوثه بسنوات من خلال فحص الدم التراكمي، الذي يعطينا فكرة عن نسب السكر الملتصقة في الأوعية الدموية، وبما ان كريات الدم الحمراء تعيش مدة ثلاثة اشهر، فإن هذا الفحص يعتبر دقيقا جدا ويعطي نتيجة واضحة لفترة طويلة لا تقل عن 3 اشهر، ونسميه "فحص ما قبل السكري".. ومن بين هؤلاء 17% يطورون مرض السكري ويبدؤون بتناول ادوية وعلاجات بعد سنة، لذلك انا أقول انه يمكن منع حدوث السكري لو تداركناه مسبقا، من خلال نظام غذائي سليم ونمط حياة صحي، فضلا عن ان علاج مرض السكري لا يكون فقط بالدواء بل بالغذاء قبل الدواء.
في احدى محاضرات الأخيرة حول منع تطور مرض السكري، في بولندا، استعرضت شريحة ضوئية مكتوب عليها بما معناه "الخضار قبل الانسولين". فعمليا في علاج السكري نمط الحياة يكون اهم من الدواء. فان تعاطي الانسولين بدون حركة بدنية لا يفيد ومع حركة جسمانية يصبح مفيدا، والأدوية بدون غذاء سليم لا تفيد، لكن التغذية وحدها قد تفيد وتجعل المريض يتخلى عن الأدوية، وانا في محاضراتي اكرر دائما بأنني اتحدى أي شخص يعاني من سكر البالغين بأنني استطيع معالجته بدون ادوية.
- معنى هذا ان هنالك شفاء من مرض السكر
- د. بشارات: نعم، هنالك شفاء من مرض السكري، ويستطيع كل مريض ان يتوقف عن تناول الأدوية شريطة ان يتبع نظام غذائي صحي.
وذكر د. بشارات حالة شقيقته التي كانت تتناول نوعين من الانسولين وغير متوازنة، وانها استطاعت ان تتخلى عن الأدوية فقط عندما أفرغت ثلاجتها من كل زجاجات وعبوات السكّر والكعك والمحليات، وعندما امتنع ابناؤها عن ادخال كل هذه المواد السكرية الى منزلها، لأنه لا يجوز لنا ان نحرم مريض السكري من تناول السكر بينما يجلس افراد العائلة من حوله ويأكلون الكنافة!! فينبغي ان يكون العلاج جماعيا وان يتضامن كل افراد العائلة مع المريض لكي يتعافى اولا ولكي لا يتوارث الاولاد المرض مستقبلا.
- هل هنالك نظام غذائي محدد وواضح يفيد مرضى السكري، وماذا عن الخبز الأبيض الذي كنت تحاربه دائما في محاضراتك؟
- د. بشارات: نعم انا أحارب الخبز لأننا في المجتمع العربي أكبر مستهلكين للخبز الأبيض في العالم. لأن الفنلندي على سبيل المثال لا يتناول الخبز في وجبته اليومية لذلك فحري بنا ان لا نتحدث اليه عن الخبز، أما ونحن اكثر المستهلكين للخبز وهو ضار جدا، فلا بد لنا ان نعي بأن الامتناع عن تناول الخبز الابيض يقلل من نسب السكري بـ36% وهذا امر يثير الدهشة فعلا!!
تخيّل ان استبدال الخبز الأبيض بخبز القمح يخفض وحده يخفض نسب السكري بـ36%. فلو قلت لمريض السكري ان هنالك انسولين قادر على خفض نسبة السكري بـ36% وثمنه 1000 دينار، لكان قد دفع المبلغ مقابل الحصول على الدواء، وانا أقدم هذه النصيحة للمرضى مجانا للمرضى الذين يتناولون الخبز الأبيض. واجرينا هذه التجربة في مستشفى الناصرة، وبعض العاملين في المستشفى كانوا جزء من التجربة.
* لماذا خبز القمح أفضل وما سبب هذا الفرق الشاسع بينه وبين الخبز الأبيض؟ وكيف نميز بين خبز القمح والخبز المصبوغ (مغشوش).
د. بشارات: اولا بالنسبة لخبز القمح المقطع يجب ان نثق بما هو مكتوب على الكيس لأنه خاضع لرقابة وزارة الصحة. أما بالنسبة للمخابز العربية فإن اصحاب المخابز يعرفون ان لدى الجمهور اليوم الوعي الكافي لمعرفة ما اذا كان خبز قمح او خبز مصبوغ، ويمكن معرفة ذلك من خلال تجربة بسيطة وهي وضع قطعة من الخبز في الحليب، فإذا كان مصبوغا يتحول لون الحليب الى البني بفعل الأصباغ.
ومن المعروف ان الفيتامينات موجودة في قشور القمح لذلك فانه يمنع فقر الدم لدى الأطفال، وفي قشرة القمح ايضا تكمن الألياف وفيها كل الفائدة، بينما في الخبز الأبيض فقط سكريات ونشويات لا فائدة منها. وتعمل قشور القمح على امتصاص السكر والمواد المسرطنة من المعدة، لذلك فان خبز القمح يمنع ايضا الاصابة بسرطان الأمعاء الغليظة بنسبة 20%. كذلك يقلل من امراض القلب وحالات الوفاة الناجمة عنها بنسبة 25%. استنادا الى ابحاث عديدة أجريت في اوروبا والولايات المتحدة. وفي فنلندا على الرغم من قلة استهلاك الخبز الأبيض الا انهم نجحوا في خفض نسب استهلاكه بـ80% خلال اربع سنوات، ومجتمعنا بحاجة ماسة الى خطوة مشابهة.
كذلك من الضروري استهلاك كميات من الخضار فنحن محسودون على كميات الخضار المتوفرة لدينا مقارنة بكل دول العالم. ولكي نعيش نمط حياة صحي علينا بالحركة وممارسة الرياضة، واستبدال المشروبات الغازية والمحلاة بالماء او صودا الشرب.